رأي

مدرسة الطفولة الإبداعية من الحجر المنزلي … شوقية بنت محمد الأنصاري

دار حوار بيني وبين بنات إخوتي حول كورونا ولسان حالهم يتذمر متى يرحل ويموت لنخرج ونعيش، وفي لحظة تقول إحداهن سأذهب وأقتله أين أجده، نريد العيد وجمعة الأطفال. معالم خيالهم ترسم مقاومة التحديات لتستقبل بهجة العيد بفرح الطفلة الشقية، وبسمة الطفل الخجول، وضحكات الطفولة البريئة، فالحوار الماتع مع الأطفال جعلني أقف تأملا لقول الله تعالى (قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون) وأتجسد معنى السعادة التي ترسمها الطفولة لمن حولها، وكيف اكتفت رغم العزل والقسوة وتقييد الحرية والنشوة أن تأوي لزاوية ضيقة تتحرك بين أضلعها وبيدها ما جمعته من قطعة حلوى أو بالون أو ورقة لبس يوم عيدها، ولربما عاشت حلم حياتها الآمن بصوت خافت وقد يعلو الفرح مع قفزاتها لتعلن وترسل حقيقة تعظيم الفرح بداخلها من قيمة بسيطة لعل السعد يعمّ من حولها.
ما أروع مدرسة الطفل الإبداعية لن يفهمها من محى معالم طفولته من سيرورة شخصيته، بل أن فترة الحجر المنزلي ألزمت الجميع في الإحساس والملامسة الحقيقة لمشاعر طفل يعيش بينهم، كان تائهًا عن عالمهم ووسط الهدوء وجدهم قبل أن يجدوه. ومع أزمة كورونا اجتمع المعنى الحقيقي لعبارة الجسد الواحد بين الأسرة والوطن، وأجزم أن الطفل فاق الجميع في تحقيق شعور الانتماء الحقيقي لأسرته ووطنه، وقد قيل في حضن الأم هو أضيق الأماكن وأكثرها اتساعا. كما لامست مشاعر الرضا من الأسرة بقربها من أطفالها خلال فترة الحجر، ليأتي السؤال الأعم هل لدى الأسرة الوعي التام في تحفيز الطفل نحو مواصلة الإبداع في ظل الحجر والعزلة، ليجد ذاته ويبلغ فرحته؟
أطفالنا من حولنا منذ ولادتهم ننجذب لنظراتهم، وبسمة أرواحهم، ونذهل عند نموّهم؛ لقوة محاكاتهم لنا، وتفوقهم في إقناعنا بأبسط حيلهم، ولغتهم الصوتية والجسدية ترسل إشارات انبهارنا؛ لتطوّر انفعالاتهم وفكرهم. إن أقوى مراحل الإبداع تبدأ من الطفولة وتقل كلما كبر الشخص دون رعاية تذكر؛ فالطفل المبدع هو الذي تظهر عليه استعدادات للإنشاء ووضع الحلول الجديدة والأصيلة من منطلق توسع معرفته وخياله الخصب؛ فيركّب أحداث تبهر من حوله من أسرته ومعلميه؛ فعلى سبيل المثال جاء حوار الطفلتين عن جائحة كورونا ليُظْهر نتيجة التراكمات المعرفية بذاكرتهم حول الفايروس وطريقة تفكيرهم لحل أزمته وإظهار شكلها الجديد الذي يسكن عالمهم بأبسط ما لديهم من الأقوال والحجج. فكيف إذا فاق إبداع الطفولة واستثمرت وقتها بالقراءة والبحث لتصل للابتكار وبالفعل قد صار، إنه لدى طفل يتميز بالتفكير المنطلق وكثرة المحاولة والخطأ والشغف لإنجاز العمل والكشف عن أشياء جديدة تسكن معالم فكره، شهدت بذلك قنوات التواصل المرئي وكيف سجّل الطفل بصمته في كل محفل وفعالية.
إنّ في هذا دلالة على امتلاك الطفولة اليوم قدرات عقلية إبداعية ترجمتها لنا من خلال قدرتها اللغوية ونمو معرفتها وتواصلها الاجتماعي والنفسي، وما شاهدته وسمعته وأشرفت عليه أثناء فترة تدريبي عن بعد للطفولة خلال فترة الحجر والعزل المنزلي من تفاعل صوتها مع الجائحة يجعلني أتفاءل بتظافر جهود الأسرة الصغيرة لدعم وتوجيه ومتابعة الطفل. كما شاهدنا تهيئة المنزل للتعليم عن بعد، ورفع نتائج تعلم الطفل، ومشاركته في بث رسائل الوعي لمجتمعه وشكره لأبطال الوطن وجنوده بالصحة والتعليم.
ولاستدامة إبداع الطفولة بالحياة علينا كمجتمعات أسرية وتعليمية أن نسخر خبرتنا المعرفية للرقي به فهو جزء من حيز الوجود. وقد ساهمت الخطابات الدولية والمنظمات العالمية وأجمعت إلى أهمية مرحلة الطفولة المبكر منها والمتأخر، كجزء مهم من مراحل عمر البشرية، ويمتد أثرها على مدى الحياة، فجاء الاهتمام بتشكيل هذه المرحلة الحيوية لنماء الإنسانية، وتوفير الفرص التعليمية الأساسية، ورسمت رؤية الوطن 2030 السعودية هذه الاتجاهات الدولية؛ فوضعت أغلب الجهات الحكومية والخاصة خططها نحو حفظ حقوق الطفل ومساندته في طرقات الحياة؛ ليبلغ إبداعه المنشود لوطنه ومستقبله.
الطفل يتواجد اليوم في عصر تتسابق فيه العقول نحو الإبداع والابتكار وهنا محك الوجود للمنافسة وإثبات الذات، ينشأ بين أربع حالات أسرية: (أسرة متعلمة واعية-أسرة متعلمة غير واعية-أسرة أمية واعية-أسرة أمية غير واعية) وفي جميع هذه الحالات لابد من اتقان الأسرة لمهارة الاتصال الفعال لتتمكن من التحفيز والتوجيه وتوفير الفرص والمتابعة وهي مفتاح الابداع للطفل، لدينا أكثر من ستة مليون طالب/ة يمثلون مرحلة الطفولة ويتفاوتون بين متعلم وعالم ومتحضر ومبدع ، وباستدامة سبل التعليم نكون لهم العين الساهرة ونوفر التربية الواعية والبصيرة النافذة والوسائل الهادفة لبناء شخصياتهم وقيمهم ورعاية مواهبهم الإبداعية، ويتبقى ترجمة إنتاجيتهم في هذه المرحلة المتدفقة بأنواع المعارف وانفتاح عصر المعلومات وتواتر الأحداث السريعة والطارئة بلغة كتابية عالية الأداء. وقد عاصرت مثل هذه الحالات الأسرية التي نشأ فيها الطفل وكانت لها إنتاجية كتابية إبداعية، الحالة الأولى لطفلة نشأت في أسرة متعلمة واعية والثانية لأسرة أمية غير واعية ، الأولى حققت فيها الطفلة التميز العلمي والثانية لم تتاح لها فرصة المنافسة بسبب انغلاق أسرتها الصغيرة فبرزت الطفلة في فترة أخرى بفضل الله ثم لجهود أسرتها التعليمية وبدعم المعلمة التي قادت إبداعها للظهور، ومؤلفات الطفولة لهاتين الحالتين كانت حاضرة في معرض الكتاب بجدة، الطفلة الأولى كتابها دراسة علمية جيولوجية لمنحدرات جبال السروات الغربية وهو المرجع العلمي الأول للمنطقة، والطفلة الثانية برز إبداعها الأدبي في كتابين بعنوان (روح تبحث عن جسد/ اقحوانة وسط حرب) والطفلتان تمثلان منطقة من مناطق إمارة مكة المكرمة وهي محافظة أضم. وهذا ما دفعني في توظيف خبرتي نحو الطفولة والانطلاق بمشروع العمر التطوعي (مملكة التأليف) لتواكب توجهات رؤيتنا التعليمية الوطنية وتنقل أدب الطفل نقلة ابتكارية ليصبح الطفل هو المؤلف للطفل، وكما وقف على المنابر خطيبا وقارئا وفي المحافل شاعرا ومنشدا فصيحا، جاء دوري لاحتضنه كأديب فوقفت بجانب ستة طالبات مؤلفات بمعرض الكتاب بجدة بصفتي أم من مدرستهم التعليمية ودعمت هذا الإبداع بدراسة بحثية عنوانها:( بين صقل الفكر الإبداعي وتنميته ولادة الطفل الأديب في القرن الواحد والعشرين ) وقدمت للطفولة التدريب المتنوع عبر المنصات التدريبية الرسمية لنرتقي بفصاحتهم ونكون خير قدوة لهم بلغة القرآن .
وهنا وقفة تقدير لوزارة التعليم وبصمتها التطويرية التحوّلية نحو رعاية الطفل؛ فحلّ برنامج الطفولة المبكرة للارتقاء بمستوى الأداء، وتقديم أجود الخطط للرعاية والاحتواء. واستمرت المنافسات الوزارية في الأنشطة المتنوعة العلمية والأدبية ونجح الطفل في خرق حدود المنافسة ليصدح بها محليا وخليجيا وعالميا. ومع فترة الحجر أطلقت النادي العلمي الافتراضي لرفع سقف الوعي لديه فيطمح للتنافسية ويثري حصيلته العلمية واللغوية. واعتلت المنابر الإعلامية لعدة وزارات وجهات حكومية بمبادرات وطنية للسمو بالطفولة مع الحجر المنزلي.
وهذه مقترحات أقدمها للأسرة ولكل مهتم بشأن الطفولة تدعم إبداعها :
• المشاركة من قبل الوالدين مع الطفل في كتابة يومياته التفاعلية كقصص قصيرة، ثلاثة أشهر كفيلة بخروج كتاب عائلي يضم ثقافة أسرية متنوعة يبدع الطفل فيها بين تعبير كتابي وفني وتقني.
• تعزيز ذائقة الطفل الفنية في رسم عوالم الحياة الأسرية والمجتمعية.
• تنمية حبه للترفيه الالكتروني في صقل مهاراته البرمجية والتقنية بإنتاج فيديوهات قصصية رقمية تعليمية.
• غرس حب التنافسية بإشراكه في البرامج التدريبية والمسابقات.
• تنمية روح العمل التطوعي والجانب الإنساني بدعم أفكاره التطوعية التي قد تصبح واقعا معززا يعيشه.
واختم مقالتي بأجمل وصية شعرية من أمير الشعراء أحمد شوقي :
أحبب الطفل وإن لم يَكُ لك
إنما الطفل على الأرض ملك
هو لطف الله لو تعلمه
رحم الله إمرأً يرحمه.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى