«كلا إن الإنسان ليطغى» … عماد الدين أديب

•بعيداً عن التحليل العلمي المعملي الوبائي الجرثومي الذي يمكن أن يفسر علمياً «فيروس كورونا»، فإن عقلي المتواضع وفهمي المحدود قد قاداني إلى فهم أعمق لما يحدث الآن.

ورغم أنني لا أحب الذين يتاجرون بالشعارات الدينية، أو يوغلون في التفسير الغيبي إلى حد الدروشة والانحراف عن صحيح الدين وحقيقة الإيمان، فإن ما نشهده الآن هو حدث جلل يجب أن يفهمه أصحاب العقول والقلوب والنفوس المؤمنة.

منذ بدء الخليقة وهناك تحديات يواجهها الإنسان بالبحث عن الزرع، الماء، النار، الطاقة، السكن الآمن، الحماية من الكوارث الطبيعية.

وعرف الإنسان: الطاعون، والحصبة، والملاريا، والإنفلونزا، ومتحور الإنفلونزا، وجنون البقر، والإيدز، والسرطان، والألزهايمر.

في كل مرة يظهر الداء، وبعده يتم اكتشاف المصل أو الدواء، ويعتقد العلم والعلماء أن الإنسان أصبح في مأمن من الأمراض.

تقدُّم العلم والعلماء أغرى مراكز الأبحاث بالسعي إلى البحث عن إطالة العمر ومحاربة الشيخوخة والبحث عن الأبدية عبر التحكم الجيني أو زراعة الأعضاء إلى حد الإقدام على صناعة إنسان من الألف إلى الياء.

ووصل العلم والعلماء إلى وضع عقل في الإنسان الآلي، ووضع آلات وشرائح إلكترونية فى الجسم البشري.

هذا كله أوصلنا إلى تلك الحالة الخطرة التى يتجرأ فيها العلم على قدرة الخالق، ويعتقد العالم أنه بديل – والعياذ بالله – للإله جل شأنه.

جبروت العقل البشري، طغيان العقل العلمي المنزوع منه الإيمان، يعطيان إنسان اليوم حالة مخيفة من الزهو والكبر والغرور بالنفس، مما يجعله يشعر أنه عابر لإرادة الخالق الواحد الأحد المدبر المطلق لهذا الكون.

وكلما شعر الإنسان أنه ملك المعرفة المطلقة، وأصبح قادراً على فعل كل شيء وأي شيء، وأن إرادته مطلقة لا حدود لها، جاءته رسالة واضحة من السماء تقول له: «أيها الإنسان أنت لا شيء، أنت جناح بعوضة أمام قدرة الله الواحد الأحد».

ها هي أعظم جنسيات في عالم اليوم، معزولة داخل غرفها أو منازلها، أحيائها، مدنها، بلا حركة طيران ولا قطارات ولا خروج ولا متنزهات، ولا مطاعم ولا ملاهي، يخزنون المياه والأطعمة، يتكالبون على الكمامات والمعقمات، يعيشون في قلق ورعب وخوف واكتئاب وذعر وتوحد وانعزال!

هذا الإنسان قبل فيروس كورونا كان يبيع ويشتري، يتحرك بحرية ويغزو الأرض من أقصاها إلى أقصاها، يخترع عقاقير ويصنع أسلحة، ويبيع سلعاً استفزازية تبدأ من أطواق مرصعة بالماس للكلاب إلى جهاز موبايل من البلاتين والأحجار الكريمة، يعتقد أنه ملك الأرض وما عليها، ويستعد لبناء مدن في كواكب الفضاء!

السعي إلى التقدم والإصلاح والإبداع والابتكار هو تكريم لمنحة العقل التي اختصنا بها الله عن سائر الكائنات، ولكن حينما تصاب النفس البشرية بالكبر، ويتخيل الإنسان أنه سيد هذا الكون ممسك بكل مفاتيحه، ولديه كافة الإجابات على كل ألغازه.. هنا تأتي الرسالة الحاسمة: «حياتك قد تكون في خطر من مجرد بعض رشقات رذاذ العطاس أو لمسة على سطح ملوث»!

الرسالة: أيها الإنسان اعرف حقيقة حجمك ومكانك ومكانتك فى ضفاف هذا الكون العظيم.

ها هي اقتصادات العالم – جميعها – تعانى من خسائر مجمّعة مباشرة وغير مباشرة تتجاوز التريليون دولار حتى تاريخه.

ها هي صناعات مثل النقل الجوي، والسياحة، والسفر والفنادق تحتضر.

ها هي صناعات النفط للشهر المقبل تنذر بأقل هبوط تاريخي لبرميل النفط حتى يكاد يصل إلى 25 دولاراً.

ها هي شركات كبرى ومتوسطة وصغرى لا تعرف ماذا تفعل مع جيوش موظفيها وعمالها وكيفية التعامل مع تأمينهم صحياً ومادياً؟

ها هي المساجد والكنائس والمعابد وملاعب كرة القدم والاحتفالات والاجتماعات العامة والمقاهي والمطاعم بلا جمهور.

ها هو الحرم المكي والحرم النبوي محددا الزوار، وها هو بابا روما يلقي، لأول مرة، عظته الأسبوعية بلا «مؤمنين».

الاقتصادات، والحكام، والحكومات، والعلماء، والأطباء، والنظام الصحي والعملات، والبورصات، والتجارة العالمية، والانتقالات في الداخل والخارج تحت ضغط غير مسبوق.

باختصار.. البشرية – فجأة – في أزمة!

إنه درس يدعو كل من على كوكب الأرض إلى أن يتأمله بعمق ويتدارسه.

عالم ما بعد الكورونا ليس كعالم ما قبله، وقيم ومشاعر وأحكام البشر بعد الكورونا سوف يعاد تقييمها وتدارسها بمنظور الإنسان المتواضع البعيد عن طغيان قوة العلم والمادة.

تعريف الطغيان فى الفقه هو تجاوز الحد، والطاغي هو العاصي الجبار العنيد، وفي تعريف آخر في قواميس اللغة هو «الأحمق المستكبر الظالم».

قوة العلم وسطوة التفكير المادي والتطور المذهل في تقنيات العلوم الحديثة وثورة الاتصالات وانفجار المعارف بلا حدود أدارت رؤوس البشر حتى ظنوا أنهم قادرون على الأرض وما عليها.

حينما يُفتن الإنسان بنفسه وقدراته يحق عليه قوله تعالى: «كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى» (سورة العلق، الآيتان 6، 7).

حقاً صدق الله العظيم

الوطن المصرية 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى