اسلامية

كنت أصوم بأمر والدي وأفطر بطلب منه … د. عبدالله غريب

للطفولة شؤونها وشجونها وللعبادات فيها مواقف وأحداث والطفولة التي أتحدث عنها اليوم هي طفولة ما قبل نصف قرن وما قبله فكانت الحياة صعبة فيها الكثير من المعوقات والمنغصات وبخاصة في القرى التي كان يعتمد فيها السكان على الزراعة وما تنتج الأرض من الحبوب كالقمح والشعير وغيرها بحسب بيئاتها في منطقة الباحة بين سراة وتهامة وبادية وما يسمى بالأصدار التي تقع بين تهامة والسراة .
أعود للذكريات في رمضان أيام بدايات الصيام بالذات فأتذكر أنني بدأت وعمري تقريبا ثمان سنوات وكان هذا العمر عند كثير من الأطفال لعدم وجود أطعمة كثيرة مغرية فكنا نكتفي بالثلاث وجبات الرئيسة في اليوم المطبخ مفتوح للجميع خالي المواد الغذائية إلا من التمر والسكر والشاي والبن ليست كما هي اليوم الأطفال طول الوقت يأكلون وكأنهم عايشون في مطعم .
عندما بدأت الصيام كان بتوجيه من والدي – يرحمه الله – في مرحلة تعويد كما يطلقون عليها أي تدريب وكان يأمرني بالصيام من بعد أتسحر مع الأسرة وأنا كبير الأبناء حينها لكنه يتابعني طوال ساعات النهار الأولى ويراقبني ويعرف متى أكون مجهدا فيحن علي ويفطرني بنفسه وكنت أضحك معه وأقول انت صومتني وانت فطرتني ترى ما علي ذنب فيضحك ويقول ستحرص مستقبلا بنفسك على تمام الصيام وتفطر معنا عند الغروب .
من الذكريات الجميلة كنت أذهب معه للمسجد الذي يتوسط القرية مبني من الحجارة والخشب والطين ومفروش بالخوص البلدي من صناعة أبناء إحدى القرى المجاورة وكان لدى أهالي القرية عادة تتمثل في تبني إفطارالصائمين جماعة المسجد والإفطار يقتصر فقط على توزيع التمر على الصائمين في الفناء الخارجي للمسجد وكنا الأطفال ندخل معهم على أساس أننا صائمين لننال حبات من التمر الذي يعبأ في أكياس من الخيش وقماش الدوت ويطلق عليه البعض ( الصفقة ) أشبه بتمر الصفائح اليوم ولكنه من نوع واحد هو الصفري كان يأتي من بيشة والعقيق التابعة للباحة .
في صيامنا لم نكن نعطش كثيرا لأن أجواء المنطقة معتدلة تميل للبرودة ومع أننا كنا ندرس في المرحلة الابتدائية التي في قرية مجاورة سيرا على الأقدام كنا نعود للبيت وننطلق مرة أخرى نرعى الغنم ونجمع الحشائش لللأبقار وفي فصل الصيف نقوم بعملية مساعدة الأهل في الحصاد وما يسمى بالدياس لفصل الحبوب عن التبن وكل هذه الأعمال كانت تتسق مع بعضها وأحيانا نتأخر في الوادي حتى أذان المغرب ونفطر متأخرين وهذا طبعا بعد ما تقدم بنا العمر وانتقلنا لدراسة المرحلة المتوسطة في الظفير التي تبعد عن مقر سكني أكثر من عشرين كم كنا نذهب ونعود سيرا على الأقدام من بعد الفجر ولا نعود إلا قبل الغروب .
في رمضان في تلك السنوات كان الناس يعرفون عن بدء الصيام ونهاية رمضان من خلال ما يسمى ب ( المشعال ) الذي كان الأطفال يصنعونه من شجر العرفج الأخضر ويضمدونه على جريد من العرعر حتى ينشف ثم يضعونه في رؤوس الجبال ويشعلونه بعد أن يسمعوا أصوات إطلاق النار من بندقيات متفرقة من قرى مجاورة قبل أن تأتي وسائل الإعلام الحديثة بما فيها المذياع الذي كان يعمل بالبطاريات الكبيرة كما هي بطارية السيارة .
كان ارمضان تقاليد جميلة بين الأسر وعادات إذ يجتمعون مع بعضهم بعد الإفطار ولكن كان معظمهم لا يسهر بعد التراويح فلا كهرباء ولا مغريات والجميع يتذكر السحور ويتذكر العمل من الصباح حتى كانت المدارس تعمل يوم الخميس والدوام لا يتغير بسبب الصوم بل كما هو في شعبان مستمر حتى الظهر للابتدائيات وما بعده للمدارس المتوسطة والثانوياة وكلاهما كانت في مواقع متباعدة جدا والمسافات بينها لا تقل عن عشرين وحتى خمسين كم .
رمضان كان في طفولتنا لم يكن حالة خاصة من المأكولات والمشروبات بل هو نفسه كما هو في سائر الشهور وكانت الأسواق التي يتبضع منها المجتمع تقتصر على الأسواق المرتبطة بأيام الأسبوع ومنها سوق رغدان الذي كان يجمع القرى من البادية والسراة وتهامة رغم وجود أسواق في هذه المواقع لكنه كان الأشهر لتأمين البضائع التي تقتصر على اللحوم والحبوب والتمور ومنتجات الأغنام والأبقار من السمن والعسل وبعض الاحتياجات الأخرى كالكروسين والأقمشة التي تأتي من مكة والطائف مقايضة بالحبوب التي كانت منطقة الباحة سلة غذائية لتلك المدن المجاورة وخاصة في المواسم وهذا ما أثبته المؤلفون في كتبهم عن حياة الحجاز وبلاد غامد وزهران .

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى