رأي

أمير الكلمة والموقف… سليمان ماجد الشاهين وكيل وزارة الخارجية الكويتي السابق

ترجل قبل أيام قليلة أمير البيان واللسان الأمير سعود الفيصل عن موقعه القيادي للسياسة الخارجية، واداتها التنفيذية من الدبلوماسية للمملكة العربية السعودية الشقيقة، بعد مسيرة حافلة بالأحداث المتراكمة عن نتائج تاريخية ماضية، وارهاصات لأحداث جسام قادمة.
انها مرحلة زمنية عبر أكثر من أربعة عقود، والرجل فيها منارة وموقف وشاهد على مسار تاريخ منطقتنا العربية والدولية بانتصاراتها وانكساراتها.
– منارة في الرأي والفكر.
– وموقف في الحزم والعزم.
– وشاهد عدول برؤية شمولية لفهم صياغة تاريخ العالم السياسي من اساطينه ومصادره المباشرة.
المملكة عظيمة وكبيرة..
عظيمة باعتبار أرضها مهبطاً للوحي الالهي ومبعثاً للرسالة المحمدية، وكبيرة حيث تتجاوز مكانتها الدولية ودورها الريادي مساحتها الجغرافية. وتشهد أوساط المملكة المحافظة بداية مدروسة لتسلم جيل أحفاد الملك المؤسس للدولة السعودية الثانية عبدالعزيز، طيب الله ثراه، ومنهم صاحب السمو الملكي الأمير سعود الفيصل الذي ورث القيم والطموح من جده وأبيه أسلوباً في حياته، وزادها فكراً وحداثة وعلماً بتخرجه في جامعة «برنستون» في الاقتصاد.
وعندما أسند إليه منصب وزارة الخارجية عام 1975 اعتبر الوزير الثاني للخارجية السعودية بعد أبيه الملك الشهيد فيصل الذي ظل يحتفظ بمنصب وزير الخارجية حتى خلال فترة ملكه التي امتدت بين عامي 1964 و1975.
وإرث الملك فيصل السياسي لبلاده وأولاده، ومن بينهم سعود، عميق تاريخياً وعملياً، إذ بعثه الملك عبدالعزيز في مهمة استطلاعية أشبه بالرسمية الى إنكلترا وفرنسا عام 1913 وهو في الرابعة عشرة من عمره، وشارك في مؤتمر لندن عام 1939 بشأن القضية الفلسطينية ضمن ما هو معروف بـ«المائدة المستديرة».
ومن الواضح أن ارتباطه وفهمه لمسار القضية الفلسطينية دفعه لإقناع أبيه بقطع العلاقات الدبلوماسية مع الولايات المتحدة الأميركية، وذلك بعد قرار الأمم المتحدة القاضي بتقسيم فلسطين إلى دولتين، ولكن الملك عبدالعزيز لم يرَ رأي ابنه فيصل، كما أن أمر تبني الملك فيصل ودعوته لإيقاف تصدير النفط بعد حرب أكتوبر 1973 لا مجال للإطالة فيه لتفاصيله المعروفة.
ضمن هذا الإرث الغني نشأ الأمير سعود وتربى، وبالطبع لا تسع مقالات المناسبات لكثير من التفاصيل التاريخية، ولكنها ومضات الذاكرة وارتعاشات القلم تفرض نفسها في اللحظات التي يتملكنا الحديث.
والرجال الكبار في سمو أخلاقهم وصفاء رؤاهم لا يترددون في اتخاذ الموقف السليم في الدقائق الحاسمة، عندما لا يحتمل الأمر التحليل ودراسة المكاسب والخسائر. ففي الفجر الرهيب في الثاني من أغسطس عام 1990، وفي مكتبي بوزارة الخارجية، كان الإخوة الأفاضل، ومنهم الأخ أحمد فهد سليمان الفهد مدير إدارة مكتب صاحب السمو حالياً، يجمعنا الموقف وتوحّدنا المشاعر، ويأتي صوت الرجل.. الأمير سعود عبر الهاتف من القاهرة، حيث يُعقد مؤتمر لوزراء الخارجية، طالباً المزيد عن الحدث والاجتياح، ومبلغاً رسالة لأخيه وصديقه الحميم النائب الأول وزير الخارجية في حينه صاحب السمو الأمير الشيخ صباح الأحمد، الذي ودعنا مغادراً الوزارة قبل لحظات.
وأضاف سمو الأمير سعود مستطرداً، بكلمات سجلتها في حينه ونشرتها في ما بعد، بقوله: «شوف يا سليمان، الكويت لن تضيع، عصر الغزو انتهى، والجريمة لا يمكن أن تمر من دون عقاب، وسيدفع الاحتلال والمحتلون الثمن غالياً».
إن معادن الرجال النبيلة تزداد بريقاً مع الزمن، والمواقف المبدئية تبدو أكثر صلابة، وما أشبه الليلة بالبارحة.. والبارحة هنا هي ربع قرن ماضية من الزمن، إذ قبل أسبوعين في اجتماع للقمة العربية في «شرم الشيخ» تم استعراض رسائل بعض قادة دول العالم إلى المؤتمر، وفق العرف المتبع، ومن بينها رسالة الرئيس الروسي بوتين، حيث تضمنت عبارات الدعوة إلى الحل السلمي العاجل في سوريا من دون التعرض إلى معطيات الحرب الشرسة التي ذهب ضحيتها ما يقرب من ربع مليون ضحية، وأحسب أن سمو الأمير سعود، وهو في مقعد الرئاسة لوفد المملكة، لم يحتمل تمرير المواقف المتناقضة تحت غطاء الكلمات المنمقة التي لا يمكن أن تخفي زيف مضمونها، وما أزهى الكلمات التي تعبر عن المبادئ وأبقاها عندما تقال في مكانها وفي زمانها، منطلقة من دون قيود المجاملات، إذ عبَّر سموه، بكل وضوح وثبات، معلقاً على مضمون الرسالة بما معناه «إن الموقف الروسي يحمل تناقضاً واضحاً، إذ كيف يمكن أن نفهم الدعوة إلى السلام بينما روسيا نفسها هي التي تمد النظام السوري بالأسلحة المدمرة لقتل شعبه».
وأحسب أن هذه الكلمات الصريحة، التي بثت عبر الشاشة من مجمع القارتين، تردد صداها في موسكو وواشنطن، وأثبتت صدق مواقف الأمير الذي لا يقبل التلاعب بالألفاظ على حساب المبادئ.
وسلاماً على أمير الكلمة وفارسها، ولا نقول وداعاً، لأن الوفاض زاخر، والنبع فياض، والإسهام التاريخي والفكري موصول بعون الله.
القبس
نشر في : 11/05/2015 12:00 AM

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى