رأي

روافد السياحة الداخلية … د. عبدالله غريب

 

* ورد مقولات كثيرة لحكماء في الشرق والغرب حول أهمية التراث والحفاظ عليه لأنه يذكر الأجيال بما كان يعيش الأجداد والآباء عليه من شظف العيش وقسوة الحياة التي لم يكن للصنعة فيها أي تدخل فكان كل إنسان يعيش حياته وفق معطيات بيئته ولذا يقولون : ” الإنسان ابن بيئته ” بمعنى أن البيئة تؤثر في تشكيله الفسيلوجي والنفسي والاجتماعي والاقتصادي فتجد التباين واضحا على حياته العامة والخاصة ودون تحديد بيئة بعينها إلا أن المملكة العربية السعودية بحكم مساحتها المترامية الأطراف وامتدادها الأفقي تجمع بين عدة بيئات منها الصحراوية والجبلية والبحرية وفي كل من هذه التقسيمات الجغرافية تتبعها اختلافات في العادات والتقاليد والمعيشة التي تحتم على المجتمع أن يكون له ما يميزه في تراثه وموروثه وهذا ما نؤمن به نحن السعوديون التي تجمعنا روابط كثيرة وأننا نعتبر هذا الاختلاف من السنن الكونية التي لا تخص مجتمعا دون آخر سواء في الشرق أو الغرب وأن هذا الاختلاف يصب في معين ضرورة التثاقف والبحث والتجربة .
ما دعاني للكتابة حول موضوع التراث والموروث ما شاهدته قبل يومين في منطقة الباحة وبالتحديد في قرية الموسى الأثرية التي انضمت مؤخرا لتكون ضمن القرى والبيوت التي أعيدت هيأتها إلى سابق عهدها قبل عشرات السنين بعضها يصل لأربعمائة عام كما هي قرية ” ذي عين ” بتهامة الباحة واليوم نرى قرية الموسى بعد أن تمت صيانة مبانيها وطرقها وساحاتها ومساربها إلى سابق عهده بفضل الدعم السخي الذي قدمه الشيخ سعيد بن علي العنقري وسيحان بن عيضة الزهراني وبتعاون الأهالي ليصنعوا هذا الحدث ” مهرجان الدار التراثي لعام 1444هـ ” الذي رعاه سمو أمير المنطقة الدكتور حسام بن سعود وحضره سعادة وكيل الإمارة عبد المنعم الشهري وسعادة المهندس احمد موسى الزهراني مساعد وزير الطاقة لشؤون التطوير والتميز وحضور المهندس سامي العنقري نيابةً عن والده كما حضر رئيس المركز ناصر عسيري المشرف على القرية وحضر معرّف القرية عبد الله الفاضل والناشطة الاجتماعية الدكتورة فاطمة الزهراني وجمع غفير من المواطنات والمواطنين والسياح من داخل المملكة والدول الشقيقة والصديقة فيما غاب عن الحفل الجندي المجهول الذي بذل جهودا جبّارة من بداية المشروع وحتى قام على قدميه وأصبح وجهة سياحية داخل الباحة إنه الزميل الناشط الاجتماعي يحي عازب الذي كان ومازال في رحلة سفر خارج المملكة وأناب عنه الناشط خالد عازب لمواصلة التنظيم لمحتويات القرية ومعروضاتها وهنا نعود لمحور حديثنا .
كان الجميع يتعطش لرؤية الماضي من خلال ما أقيم في هذه القرية من نشاطات وعروض للموروث القديم في أدوات الزراعة التقليدية والحلي المصنوعة من الفضة وملابس النساء والأسلحة القديمة والعملات لأكثر من سبعين عاماً وأتيحت الفرصة للرسامين والرسامات في الفنون التشكيلية وجناح للخط العربي وعرض بعض الصناعات التقليدية المحلية التي كانت تشتهر بها الباحة وتم عرض انواع الحبوب التي تنتجها المنطقة وأقيمت بعض المطابخ السريعة للوجبات الشعبية للأسر المنتجة وتم عرض مجموعة من الصور لكبار القرية المتوفين رحمهم الله وأقيم مسرح للطفل ومسابقات الأسرة وعرض أدوات الطهي وبعض مستلزمات البيت القديم إلى جانب عرض الأكلات الشعبية التي أبهرت الحضور ومنها على سبيل المثال ” الخبزة ” التي يعتبرها الكثير أكبر رغيف في العالم بحجمه وطريقة عمله وكمية الطحين الذي يتراوح بين خمسة إلى عشرين كيلو جرام وربما أكثر وقطر يصل بين نصف متر إلى ثمانين سم تقريبا وكان الكل يتسابق على تناوله وتناول بعض الوجبات الشعبية القديمة التي قدمنها بعض نساء القرية مع السمن والعسل من الأسر المنتجة التي تحظى بدعم الدولة ماديا ومعنويا حتى أصبح التنافس على صناعتها الأسر في أنحاء المملكة بحسب الأكلات الشعبية في كل منطقة وأصبحت هذه الأسر غنية بفضل هذه العودة للتراث القديم وتقديم وجبات مميزة في صناعتها ونظافتها ونوعية مقاديرها والذي وجد طريقه السريع إلى البيوت وفي المناسبات العامة والخاصة لأنه يقدم من بيوت خبرة ويتمتع بجميع مقومات النظافة والصحة العامة ما أبهر الحضور الشباب والفتيات المتطوعين لتنظيم دخول وخروج الزوار وإرشادهم فاستحقوا الشكر من الجميع .
في منطقة الباحة عدد من الغابات والمنتزهات والقرى الأثرية التي أصبحت مهوى أفئدة السياح على مدار العام وبالتحديد في فصل الصيف وقت العطلات المدرسية وفي هذه المواقع تنتشر بسطات الأسر المنتجة منها الثابت ومنها ما يجلب من البيوت بواسطة الفتيات وأمهات البيوت اللاتي ماهرات في صناعة هذه الوجبات ويجدن فيها متعة وهن يشاركن في ضيافة المصطافين بهذا العمل الاجتماعي الأسري الجميل .
أعود وأكرر يجب علينا أن نشجع هذه الأسر المنتجة بشراء ما يطهين من الوجبات سواء القديمة الشعبية أو العصرية الحديثة واللاتي نأمن جانبهن في عمليات الطهي الذي لا يسبب لنا أي أضرار صحية لا سمح الله وأنا أعتقد أن هذه الأسر سواء بصفة جماعية أو فردية منتشرات في جميع المناطق والمحافظات والقرى ولعلم الجميع فإن جميع هذه الوجبات معروفة ومألوفة ويمكن استساغتها بسرعة لعدم وجود إضافات تغير من نكهتها الأصلية وبهذا سوف نستغني عن الوجبات السريعة وعن المطاعم ولو بصفة جزئية في المواسم ووقت الأفراح والمناسبات العامة والخاصة وهنا يحضرني قول أحد الحكماء الذي قال : ” إن الجيل الجديد يجب أن يعرف كم قاسى الجيل الذي سبقه ربما بعشرات السنين لأن ذلك يزيده صلابة وصبرا وارتباطا لمواصلة المسيرة التي بدأها الأجداد والآباء والتي جسدت عطاء إنسان هذا الوطن المعطاء .
تلويحة وداع :
أقترح على المسؤولين في فرع الهيئة العامة للسياحة والآثار التواصل مع أصحاب المتاحف بالباحة وتقييم مقتنياتهم وشراء ما يمكن وجمعها في مقر مبنى متحف الباحة الإقليمي الذي تأسس عام 1424هـ وضم بعض الأحافير وأدوات تعود بعضها للعصر الحجري والعصر الموستيري وبعض المقتنيات النادرة المهداة للمتحف ولعله يكون مستقبلا قبلة الزائرين في برامج الصيف وعلى مدار العام .

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى